مقدمة الطبعة الثالثة بقلم ميشال حديّد

   قد يقال أن "مراهقة" مجموعة قصائد متوحشة، بدائية، مجرّدة من الحس الوجداني والشعور الانساني العميق الهادف.
   وقد يقال ايضاً ان الشاعر في "مراهقة" لا يهمه من المرأة سوى نهديها "المن مرمر" وشفتيها "المن نار"، وبالطبع تلك التنورة التي راحت تضيق وتتقلّص وتقصر حتى كاد أبو العلاء المعري يستعيد بصره ويهتف: ألله ما أجمل ما صنعت يداك!
   ان الشاعر في "مراهقة" يتفجّر غرائزياً، ويسترسل في انزلاقه وراء شهواته العنيفة حتى يعلن المرأة الهاً من اثارة ولهو ومجون.
   ليس في مراهقة أي أثر للحب. ليس فيه سوى الغزل الاباحي، الغزل الجنسي الجارف. فالجنس رمز العصر وغايته، والمرأة جسد جميل ولذيذ ولا غير:
وْتَخْت مَفْرُوش بْحَرِيرْ
بْزَنْبَق.. بْوَرْد.. بْعَبِيرْ
وْشَبّ عَمْ يِنْشُلْ غَرِيقَه
وْكِيفْ مَا تْحِرَّكِتْ كِيفْ
اللَّيْلْ وَاقِفْلِي عَرِيفْ
بْيِحْسُب عْلَيِّي الدّقِيقَه
   ان هذا اللون من الغزل الاباحي، هجره الشاعر شربل بعيني منذ زمن طويل، لكنه يشكل مرحلة هامة من مسيرته الشعرية الطويلة. انها مرحلة البداية والتفتح والاطلالة الاولى على العالم من بين دفتيّ كتاب حمل اسم "مراهقة". فالقصائد في الكتاب هي تسجيل أمين لنبضات مرحلة الصبا في سني المراهقة. وقلما أجاد شاعر في رسم وتصوير تلافيف هذه المرحلة وانفعالاتها وتشنجاتها كما فعل شربل بعيني. مراهق يكتب مراهقاته ومغامراته الغزلية بلا حياء أو خوف أو تلعثم.
   ان مغامرات شربل بعيني العاطفية في كتاب "مراهقة" تختلف عن مغامرات الآخرين أمثال: لامرتين في "البحيرة" وموسه في "الليالي"، وفيكتور هيغو في "القصاصات"، فهؤلاء الشعراء استمدوا وحيهم الشعري من جميع أشكال العاطفة لكنهم أخضعوها "العاطفة" لتتحول الى قيمة جمالية ابعد عن البحث الشخصي من اللذة. ويقول الكاتب "ألان" في هذا الصدد:
   "ان ما يصنعه الانسان تحت تأثير الشهوات والانفعالات والاختلاجات، ليس جميلاً بالطبع.. والانسان عندما يكون فريسة الشهوة والانفعال، يئن ويصيح ويعج أو يحشرج حسب الظروف، وكل هذا ليس نطقاً وليس أنشودة".
   وكثيرون هم الفلاسفة الذين دعوا الى تطهير الفن من الملذات والشهوات والى الارتقاء به الى "نوع من التحالف مع العناصر الكونية عن طريق الحواس التي أصبحت شفافة، وعن طريق الروح في آن واحد" (الشاعر الفرنسي بول كلوديل).
   وكان أفلاطون قد سبقه الى القول: "ان الجمال لا يتحقق الا بقدرة الفنان على التحرر من الملذات العنيفة، والاسهام في الانسجام الذي يسود الكون".
   لو تناولنا قصائد "مراهقة" بحسب المقاييس الجمالية الافلاطونية وسلالاتها عبر العصور، لحسبنا شربل بعيني أبشع من القرد، وألعن من إبليس. واما لو دفعنا بها الى مختبرات سيغموند فرويد العالم الجنسي، فلكنا حصلنا منه على تأشيرة دخول الى الجنة. فالكبت الجنسي هو ايضاً قوة تفجيرية كامنة في الانسان، وقد تتخذ هذه القوة أثناء تفجرها أشكالاً مختلفة وتتلبس صوراً حسيّة متباينة تعبّر عن شدّة الانفعال وضراوته، وتسلط المخيلة على العقل:
صَدْرِكْ.. قَاسِي وِمْحَجَّرْ
جِسْمِكْ.. أَحْلَى مْنِ الْمَرْمَرْ
...
هَـ الْحَلْمِة اللِّي مْشَوّبِه
يَا مَا قْلُوب مْدَوّبِه
وْمَكْتُوبْ حَدَّا عَ النَّهدْ
لا تِلمْسُونِي.. مْكَهِرْبِه!!
....
وْلِكْ.. قَصّرِي الْفُسْتَانْ
يَا مْرَاهْقَه أَكْتَرْ
تَا تْكَزْكِز الأَسْنَانْ
وِالْقَلْبْ يِتْحَسَّرْ
   الشاعر كما هو واضح، بعتمد الصورة الحسيّة في وصف مراهقاته، وفي تصوير انفعالاته الشهوانية. انه مستسلم للجسد واشواقه واحلامه ومتطلباته، مسكون بالنهود والحلمات والشفاه. أليست هذه الاهتمامات والاشواق هي كل ما يفكر به المراهقون والمراهقات؟.
   طبع كتاب "مراهقة" سنة 1968. واشتهر الكتاب كثيراً على الرغم من أن النقاد المتزمتين اجتماعياً ودينياً اعتبروه تجاوزاً خطيراً للقيم الاجتماعية السائدة، وتهديداً مباشراً للجيل الجديد، وقد روّج هؤلاء النقّاد لهذا الكتاب من حيث لا يدرون، فأقبل المراهقون والمراهقات على اقتنائه، وكم ردد هؤلاء "الصغار" في خلواتهم:
جِسْمِي شِعِلْ.. تِمِّي حِمِي
عَجِّلْ بِمَيَّكْ رِشّنِي
   كتب أحدهم تحت اسم "توني سابا" في مجلة "الساخر" العدد السادس، حزيران 1970:
"المثل الدارج يقول: ألله بيبلي وبيعين.
وفي السطور التالية بعض تطبيقاته اللبنانية في حقل الشعر:
بلانا بغزل سيىء سخيف، زمخشري لرجل غبي قليل الذوق اسمه نزار قبّاني، صاحب البيت من الشعر الذي لا معنى له:
أخاف أن أقول للتي أحبّها، أحبها
فالخمر في جرارها تخسر شيئاً عندما نصبّها
وأعاننا بالغزل الارستقراطي الرفيع، ومنه هذه القصور لشربل بعيني "وينك يا مار شربل":
هَـ الْحَلْمِة اللِّي مْشَوّبِه
يَا مَا قْلُوب مْدَوّبِه
وْمَكْتُوبْ حَدَّا عَ النَّهدْ
لا تِلمْسُونِي.. مْكَهِرْبِه!
   وكتبت عنه أيضاً "النهار" و"البيرق" و"الشعلة" ومما كتب مقالة بقلم تريز رعد، نشرت في البيرق العدد 1288، تاريخ 11/11/1968:
إلى شربل بعيني..
أحببتك لأنك جريء،
ما أروعك يا شاعري..
إنّي أراك بين السطور
تبتسم، تثور..
"مراهقة".. إسم جميل
أطلقته على كتابك الجميل
أعترف أنّك سحرتني
سيطرت عليّ تماماً
جعلتني أبني قصوراً من الأحلام
بالقرب من أبياتك الشعريّة.
قرأت "مراهقة" عدّة مرّات متتاليّة
دون أن أملّ..
وكيف أملّ من السحر والجمال
من اللّذة والخيال؟!
   بالواقع ان شربل بعيني في كل ما كتب، كان ثائراً شجاعاً، داعياً الى التغيير، وتجاوز العقليات السائدة، والتقاليد الجامدة. ففي الغزل الاباحي، اضطر بعض النقاد الى الاستعانة بمار شربل مخلوف على شربل بعيني، وفي الشعر الوطني كان غرباله لا يرحم زعيماً ولا مسؤولاً ولا اقطاعياً. وفي شعره الصوفي ثار على رجال الدين ممن حوّلوا العبادة الى مهنة للارتزاق والتعيش، وثار على الاساطير والخرافات الدينية التي مسخت الانسان المؤمن، وقوّضت امكاناته وقدراته على الاقلاع والتحرر.
   ان شعر شربل بعيني يبقى ثرثرة متى أفرغناه من ثوريته الجامحة الملتهبة.. وحتى قصائده في "مراهقة" كانت في تلك "الايام الستينات" دعوة جريئة الى التحرر الجنسي مع تحفظنا الشديد من خطورة تلك الدعوة، لأنها مبنية على الانفعالات النفسية. وقد نجد انفسنا مرغمين على التنازل عن "تحفظنا الشديد" لاننا امام شاعر لا امام عالم فيزيائي أو كيميائي او نفساني.
سيدني ـ آذار 1987
**